الأيقونة الأفريقية "سنغور"
بقلم : سميرة سلمان عبد الرسول
يقول ليوبولد سيدار سنغور :
«إن الصورة لا تأثير لها على الأفريقي إذا لم تكن إيقاعية، فالإيقاع هو الذي يكمل الصورة بتوحيدها مع الإثارة والحس، ومع الروح والجسد».
هذه الخاصية ميزت شعر سنغور، إذا استثنينا المرحلة الأخيرة بعدما أصبح رئيساً. وكما يقول الناقد وليم أوكسلي، فإن سنغور لم يكن يبحث عن الإثارة، بقدر بحثه عن الرموز المكتنزة بالإرث الأفريقي، والمشحونة بالصورة والإيقاع. وهذا ما يفتقد إليه، حسب رأيه، الشعر الأنجلو ـ أميركي. إن الشعر عند سنغور يجب أن يسمع كما الموسيقى، فهو ميت على الورقة ما لم تبعثه الأصوات إلى الحياة، تماماً مثل الموسيقى. وهي خاصية أفريقية بامتياز. فما أن «تسمي شيئاً في أفريقيا، حتى ينبعث المعنى المختبئ تحت الإثارة».
سنغور... ذلك الرجل الذي بقي وفيا للطالب الأفريقي الذي لم يغادره حتى بعد أن صار شاعرا مرموقا، ووجها ثقافيا بارزا في باريس، وأول رئيس شاعر للسينغال المستقلة. وحكاية سنغور الطالب الأفريقي بدأت في بداية الثلاثينات من القرن الماضي حيث أنه لم يذعن لثقافة الآخر، ولم يتخل عن نغمات تلال بلاده أو نباتات أرضه المتسلقة، ليذوب مفتونا بالأنوار وبوجوه الفرنسيين الشديدة البياض، ولم تنسه مقاهي باريس الجميلة أنه فتى من «جوال» السينغالية المستعمرة، وأنه مدان في لونه وفي هويته. فما كان منه إلا أن شمّر عن روح الجد، ووضع يده في يد الطلبة الآفارقة، وجندوا أصابعهم السوداء للكتابة والنضال في نشرية لم يجدوا لها عنوانا أجمل أو أصدق من عنوان «الطالب الأسود» ، وفيها عبر سنغور ورفاقه عن رفضهم للعنصرية وقدموا أنفسهم سفراء للون الأسود الذي لم يمنعهم من رؤية جمال أمهاتهم، ولا من أن يقعوا مغرمين بجدات ناعومي كامبل.
وتلك «النشرية» التي كانت بمثابة الموقد الذي يجعل للإلتفاف معنى وجدوى، نقلت الثورة العاصفة بوجدان سنغور فكتب وكثيرا ما كان يقول «الأبيض لا يستطيع البتة أن يكون أسود لأن السواد هو الحكمة والجمال». إنها شعرية السواد وفلسفته التي كي يعيها الآخر وينفذ إلى مقولاتها وقصائدها المنثورة في أعماق التلال المستديرة، لا بد أن يتوفر له دليل خاص جداً يمكنه من قراءة شفرات ما تحت اللون وما بعد اللون. طبعا لا شك في أن أول من قال بالزنوجة هو "ايميه سيزار" الذي يعود أصله الى جزيرة المرتنيك، إلا أن المتفق عليه هو أن ليوبولد سيدار سنغور هو فيلسوفها. ومن خلال فلسفة الزنوجة، طالب الشاعر الرئيس الراحل بعدم الأخذ بالتمثل الفكري الذي خنق الشخصية الزنجية مع إعادة التباهي بأفريقيا، عن طريق شرح العادات والأغراض والمؤسسات القبلية وتزكيتها وتمجيد الأبطال الأفريقيين. ولولا تعدد اللهجات عند الأفارقة السود لحقق مشروع تصدير قيم الزنوج من أجل دمجها ضمن القيم الحضارية الأخرى نتائج سحرية الوقع والتحقق، وبذلك يكون سنغور قد تفطن باكرا إلى قيمة المعطى الثقافي في الصراع بين الحضارات، وخبر بفضل الشاعر الساكن فيه أن لا شيء يمسح الفرد من الوجود مثل زوال هويته أو طحن ذاكرته من أقدام لا تملك سوى الغزو طريقة في المشي! ومثل هذا النضال كان أبعد ما يكون عن ترف يمارسه شاب أفريقي في باريس الساحرة، ولم يكن مجرد شطحة من شطحات إيقاع «التام تام» الأفريقي، بل كان أشبه ما يكون بالسير فوق الإبر والمسامير في ظرف نشدت فيها العنصرية أوجها، فدخل السجن في ألمانيا وأقام محاطا بالقضبان الشاهقة مدة سنتين وهي مدة كانت كافية جدا كي يتعتق حب سنغور للزنوجة وكي يفعل فيه الحنين الويلات المحببة، مما جعل للألم طريقا أيسر وأسرع وأكثر تلقائيا ساعة شعوره بالأذى، فتمكن من طي المسافات الفاصلة عن الصدق وأطلق العنان للألم وللغضب ليمتزجا بموهبة شاعر فذ وزنجي مفتون بزنجيته، فكتب قصيدة قاسية في نيويورك عندما زار حي الزنوج بها، ووجد أبناء جلدته يعانون التهميش والإقصاء حتى العنق، وفي هذه القصيدة الطويلة والقديمة يقول:
" نيويورك ...
إسمعيني يا نيويورك
دعي دمي يجري في دمك
عساه يزيل الصدأ
عن مفاصلك الصليبية
كأنه زيت الحياة
فيكسب جسورك استدارة التلال
ومرونة النباتات المتسلقة
انظري... ها هي الأزمنة الغابرة تعود مرة أخرى،
وتستعاد الوحدة والرفاق بين الأسد والثورة والشجرة،
وترتبط الفكرة هنا بالعمل والأذن بالقلب والإشارة بالمعنى. وكل ما جاء في دواوين سنغور الثمانية يدور حول عشقه الجارف لأفريقيا وهو المحور المسيطر في مجموعته الأولى «أغاني الظل» ، وكل المحور في مجموعتي «قرابين سوداء» و«ليليات» الشيء الذي أكسب شعره طابعا عالميا ما كان ليحققه لو سلم مفاتيحه لثقافة الآخر؛ لتحوله إلى جندي هزيل يقف في آخر طابور الجنود الفرنسيين. وبالرغم من أن قصيدته المناضلة تنطق بلغة موليار فإن سنغور عرف كيف يتمسك بما هو عصي على التفريط، فكتب في مقدمة ديوانه «حبشيات» بأن القصيدة التي يطاردها هي عبارة عن «رقصة حب» زنجية يحضر فيها إيقاع الروح الزنجية ومعانيها الأصيلة، مضيفا في نفس المقدمة نفسها بأن الشعر ليس مونولوجا ولكنه حوار مادته الحقيقة، ومن فرط هوسه بأفكاره لم يكتفِ سنغور بالتعويل على «نشرية الطالب» أو على مدونة شعره الغزيرة التي تتغذى من موروث الأساطير؛ بل سخر قسطا من جهده وعمره لنشر أربعة كتب تحت عنوان «حرية»، تناول فيها فلسفته وأفكاره بالتحليل وبالاسترسال.
ومن أجل كل هذه الاعتبارات لم يمح منصب الرئاسة الذي تولاه سنغور في سنة 1960 ، وجلس عليه إلى غاية 1980 صفة الشاعر عن الرجل بل إنه لم تتوقف فيه كينونة الشاعر التي دفعته إلى أن يكون أول من يضفي الديمقراطية على الحياة السياسية في بلاده، ولأنه الشاعر الرئيس حققت السنغال كل النقلة التي حققتها، وبلغ به الوفاء (سنغور الشاعر) أن يتخلى عن السلطة قبل أن تفكر في التخلي عنه ، فبقي شامخا في الأذهان والوجدان لأنه عرف كيف يخرج بمثل الهيبة التي دخل بها عالم السلطة.
إن سنغور الذي مات عن سن تناهز 95 سنة، تكمن قوته في أنه لم يقو على تمزيق صورة الطالب الزنجي فيه، فنما كشجرة ا
السنديان بمطر حقيقته، إذ أنه لو كان رجلا مزيفا لمات فيه الشاعر أول ما تسلم مقاليد الحكم، ولتوقف عن إبداع البؤساء ولانتظر سقوط آخر أسنانه أمام السينغاليين. مات سنغور الذي لم يكن رئيسا شاعرا بقدر ما كان الشاعر الرئيس؛ مكتفيا بالعيش معنا أقل من سنتين في قرن تتعارض مقدماته مع إنسانية سنغور وحكمته المعروفة عنه.
لكن من الغبن أن نحصر سنغور في مشروعه "الزنوجي" التحرّري وفي نضاله وهويته السياسية فهو شاعر أولاً وأخيراً، وشاعر ذو مراس فريد في اللغة الفرنسية وذو جذور تضرب في عمق التربة الأفريقية والذاكرة الجماعية والتراث الشفوي واللاوعي العام. واستطاع سنغور عبر شعره أولا؛ً وعبر مواقفه السياسية والثقافية؛ أن يكون بمثابة الجسر بين حضارتين أو ثقافتين: الثقافة الأفريقية والثقافة الفرنسية، الثقافة الحديثة والثقافة التقليدية أو الشعبية. وهكذا كان سنغور واحداً من رواد "الحوار" الحضاري الحقيقي القائم على الاحتجاج والرفض والسجال، وليس على الإذعان والمماثلة. فهو إذ اعتمد لغة الآخر أو المستعمِر؛ فإنما ليكتب فيها ما يمثل حال القطيعة معه، وما يجسد أفكاره هو، الذي كان طوال سنوات ضحيّة من ضحايا الآخر. لقد مثلت تجربة سنغور الطويلة ذلك اللقاء الثقافي الحقيقي، بل ذلك "المفترق" كما يحلو له أن يقول: "مفترق من يعطي ويتلقى"، مفترق التعدد و"التهجين". لا يخفي سنغور تأثره بالشعر الفرنسي الحديث الذي كان دأب على قراءته منذ الفتوة، مثلما لا يخفي تأثره بالتراث الشعري الشفوي الذي كان يتناقله الرواة والمغنون والشعراء الأفارقة، ولم يتوان في أحيان عن إعلان هؤلاء نماذج يحتذيهم. وربما من هنا؛ من هذا الأثر العميق، تنبع غنائية سنغور التي تمثل الطابع اللافت في شعره. والغنائية هذه قد تكون نتاج ذلك اللقاء بين الثقافات، فالضمير المتكلم الأنا كما يقول الناقد الفرنسي جان لويس جوبير ليس معهوداً في الشعر الأفريقي. وقد استخدمه سنغور مرسخاً نزعته الغنائية المنطلقة من "الذات" نحو "الآخر" القريب أو المختلف. والقصائد التي كتبها سنغور في باريس الثلاثينات تعبّر عن أحوال العزلة والقلق التي كان يعيشها الشاعر الشاب، الذي كان لا بد لمدينة عظيمة مثل باريس من ان تصدمه. وعندما جمع سنغور أعماله الشعرية وضع قصيدته الشهيرة In Memoriam في مستهلها ، وهي أصلاً القصيدة الأولى في ديوانه الأول "اغنيات الظل". ويقول سنغور في مطلعها: "إنه الأحد، أخاف هذا الحشد، حشد أشباهي ذوي الوجوه الحجرية. من برجي الزجاجي الذي تسكنه آلام الصداع، والأسلاف المتلهّفون، أتأمل السقوف والتلال يغطيها الضباب...". وفي وسط تلك الغربة لم يكن له إلا أن يستعيد بلاده الأولى التي يصفها بـ"الجنة"، "جنة الطفولة" أو "المملكة" التي كما يعبّر؛ عاش فيها واستمع إلى الكائنات الخرافية وهي تتحدث عبر الأشياء والعناصر. بدا ديوان سنغور الأول "أغنيات الظل" أشبه بالاحتفال بـ"مملكة الطفولة" في ما تضمّ من طقوس وأغنيات وأناشيد وسهرات قروية، ورواة وسحرة وأطياف هي أطياف الآباء والأجداد الذين يحضرون بشدة أصلاً في شعر سنغور. أما الحكمة التي يمكن استخلاصها من ذلك الديوان فهي "التحسّر على البلاد السوداء، البلاد الأولى التي مهما ابتعد الشاعر منها تظلّ في نبضة "
*(أورفيوس الأسود.. إيقاع أفريقيا الصاخب في قلب أوروبا)
No comments:
Post a Comment